الرئيسية / دراسات / التغيير في الظرف الراهن هل هو سلوك ذاتي؟
التغيير في الظرف الراهن هل هو سلوك ذاتي؟

التغيير في الظرف الراهن هل هو سلوك ذاتي؟

ما مفهوم التغيير؟ وما الداعي إلى حدوثه؟ وكيف يحدث؟ وهل هو سلوك ذاتي طوعي إرادي، أم
ذاتي كرهي فرضي؟ أم هو الاثنان معا؟ أم أنه سلوك خارجي فرضي؟ وكيف يتحقق التغيير؟ وما
أهدافه؟
تتعالى الصيحات اليوم مطالبة بتغيير كل شيء، نسمعها تدِّوي في كل مكان، في منازلنا، وفي مجالسنا، وعبر
الفضائيات، تغيير البشر، والحجر، تغيير المتحرك، والساكن… الجميع يسبُّ ويشتم، ويذمّ ويتضجر، وينقد
وينقض، الجميع يطالب بالتغيير.. فوا عجبا!!! ألا يعلمون أن التغيير يبدأ بالنفس شرطا مفروضا؟!!!
ابْدَأ بنفسِكَ فانْهَهَا عنْ غيِّها فَإِذَا انتَهَتْ فأنت حَكِيمُ
التغيير في اللغة: يأتي لمعان عديدة، أهمها: التحول، والتبديل، والاختلاف، والانتقال.
التغيير في الاصطلاح: إحداث شيء لم يكن قبله، وهو أيضا انتقال الشيء من حالة إلى حالة أخرى، كما
هو الحال في دعوات الأنبياء والرسل من تغيير عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد، والأمثلة في ذلك كثيرة،
منهاتغيير هيئة الإنسان في حال الغضب، والضيق، والتضييق عليه بالجلوس، والأذكار، والوضوء، وفي حال
الاضطجاع، وبالسفر، وغيرها كثير، وهو أيضا الانتقال بالنفس إلى جادّة الطريق و الصواب.
التغيير في النحو والدلالة: الفعل)تغيَّر( فعل ماض قاصر ولازم، أي أنه يكتفي بفاعله ولا يتعداه إلى مفعول
به، فقولك: تغيَّرَ الشيءُ، يدل على تحّوله من حال إلى حال بمرونة وطواعية، تحول ذاتي لا إرغام فيه من طرف
خارجي، وإن وجد مغير حقيقي فهو مختفٍ لا ظهور له في هذه الصيغة، وفي ذلك إشارة إلى أن الشيء المتغير
إما أنه يخضع لإجراء طبيعي روتيني كما هو الحال في كثير من الموجودات كالجمادات وغيرها، وإما أنه يتصف
بالمطاوعة والاستجابة السلسة والسهلة للمغيرات، على حد قولهم:)غيرته فتغير(، ومصدر هذا الفعل )التغير(.
الفعل)غَيَّرَ( فعل ماض مجاوز ومتعد، أي أنه لا يكتفي بفاعله بل يتعداه إلى مفعول به، فقولك: غيَّرْتُ الشيء،
يعني: لك عليه سلطان التغيير، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتغير ذلك الشيء بنفسه وإرادته، أو
طواعية، وهنا إرغام وقع من طرف خارج عن الشيء غير ذاتي فيه، ففي هذا المثال حدث خارجي دل عليه
الفعل ) غيَّرَ( وفيه مغيَّرٌ حقيقيٌّ دل عليه الفاعل وهو ضمير المتكلم )التاء(، كما أن هناك مفعول به هذا التغيير
على وجه القوة، والقدرة، والفرض، وهو )الشيء( وهذا يعني أنه ثمة تغيير إجباريٌّ ظاهرٌ ومفروض من قوة
خارجية على شيء على وجه القهر والغلبة، ومصدر هذا الفعل)التَغْيير(.
الفعل الأخير هو مجال بحثنا، ووفق ما تبين فإن مصدره )التغيير( وهو يدل على إجراء خارجي مفروض على
ما شأنه، أو من شأنه أن يتحقق فيه التغيير، سواء أكان هذا التغيير إحداثا لشيء جديد لم يكن موجودا من
قبل، أو انتقالا بالشيء من حالة إلى حالة، أو إرجاعها إلى جادة الطريق، وبالطبع يكون الانتقال في الحالات
المذكورة إلى الأنفع والأفيد.
وقد دلّ عليه قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ الرعد الآية 11 .
فالتغيير الأول: في الآية واقع من الله- سبحانه- وقد نقدَّم منفيّا ومشروطا على الأول، وهذا يعني أمرين:
وقوعها إثباتا بفعل فاعل قادر وقوي يملك التغيير، الثاني: عدم وقوعه )نفياً( أيضا بقوة قادر وقويّ له مقدرة
المنع والحجب إلا بتحقق الشرط.
والتغيير الثاني: واقع من الإنسان بحكم العقل، والإرادة والاختيار، وهي مِنَحٌ من الله- تبارك اسمه- ووقوعه
على النفس التي هو مأمور ومطالب بمجاهدتها والأخذ بزمامها إلى ما ينفعها، ويفيدها، وينجيها.
ولماّ كانت الأنفس لا يمكن أن تُغَيَّر جملة واحدة، وهذا من بديهيات الأمور، إذ كل إنسان له نفسه الخاصة به
ولا يشاركه أحد فيها من جهة الكسب، والرعاية، والمسؤولية، وجب على كل إنسان مدرك وعاقل لهذه المعاني
أن يبدأ بتغيير نفسه الأمّارة بالسوء بفرض سلطان العقل، والمجاهدة، والمغالبة لتغييرها إلى الأمور الإيجابية
المذكورة، وإنما ورد لفظ)القوم( و )الأنفس( في الآية القرآنية بالجمع إشارة إلى أن التغيير عندما يعمّ الجميع
تعم به الفائدة عليهم، وعندما يُسلب من الجميع يعم به الضرر عليهم، وهنا إشارة ضمنية إلى أنه من الواجب
أن يحدث التغيير أولا في الفرد ومن ثم يعم المجتمع، وإلا فما فائدة أن يُغيِّر فردٌ أو اثنان من أنفسهم والسواد
الأكبر من القوم لا يُغيِّرُون؟!!! فالأنفس تتقوى ببعضها، كما يلحقها الضرر ببعضها.
إذن )التغيير( سلوك ذاتي كرهيّ فرضيّ بين الإنسان ونفسه في الخطوة الأولى، وهو أيضا خارجي توفيقي
مشروط من الخالق المعبود إلى مخلوقه العابد في الخطوة التالية.
أما عن كيفية وقوعه وتحققه فهو يحتاج إلى إدراك ودراية، وحسن قراءة للواقع وللمتغيرات وللخيارات الأفضل
والأنفع، ولا أظن أن أحدا من الناس لا يدرك ما ينفعه وينفع مجتمعه من داخل نفسه، فلن يُطلب منك أن تغير
غيرك، إنما تغيير غيرك لا يحدث إلا بتغير نفسك، فالمسألة كما ترى سهلة وبسيطة وميسرة، فلا يكلف الله
نفسا إلا ما تقدر عليه، وأقل ما تقدر عليه هو نفسك، وإن لم تقدر على نفسك، أو على الأقل تجاهدها فاعلم
أنك في وضع لا تحسد عليه.
أما عن أهداف )التغيير ( فلا أظنها تخفى على أحد، فحسب المرء إن أراد عدَّها أن يعدَّ منها ما استطاع، لأنه
مهما عدّ وأحصى فلن يحصِ لها عددا.
لعلَّني أخلص وإياكم بعد تلكم المقدمة المختصرة إلى القالب الذي سنفرغ فيه محتواها ومضمونها، ونرى
حصادها وجناها، ونتلمس آثارها وفوائدها، لعلنا نخلص إلى جعل)التغيير( واقعا متحققا في نفس كل فرد
منا، لعلنا نحسُّ به يسري في عروقنا، لعلنا نراه واقعا في قومنا ومجتمعنا، حينها نكون على يقين بأن )التغيير(
قد عمَّ نوره المجتمع، وحينئذ لا نحتاج إلى أن نطالب غيرنا بالتغيير إلا إذا افتقدنا شيئا في سلوكه وكيانه هو
بالفعل موجود في سلوكنا وكياننا.

مصادر البحث:
لسان العرب لابن منظور، وكتاب التعريفات للجرجاني.

علي محمد الرماح

عن إدارة التحرير

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى